الخميس 03 مارس 2024
spot_img
الرئيسيةأخبار وطنيةثـــــروة بْلحَـــسَنْ: الرأسمال الأمازيغي النبيل .

ثـــــروة بْلحَـــسَنْ: الرأسمال الأمازيغي النبيل .

النهار24 .

توفي يوم 30 أكتوبر 2020 المرحوم “أحمد أمسروي بلحسن”، ابن عائلة سوسية أمازيغية مشهورة بالثروة والمال والأعمال، أسرة استثمرت في الصناعات الغذائية والمشروبات الغازية مبكرا، وتربعت على عرش الاقتصاد الصناعي بسوس وباقي ربوع الوطن، حيث تخصصت في بعض الصناعات الغذائية. ونظرا لما ساهمت به هذه الأسرة الامازيغية الطيبة والخيرة في تطوير الاقتصاد الوطني وفي مجال صناعة الثروة، وتوفير مناصب الشغل للشباب والنساء والأطر العليا، وما تميزت به من خصال حميدة في التضامن الاجتماعي والإنساني والدعم الثقافي والرياضي، والابتعاد عن استغلال السياسة لكسب المال، فإنها تستحق منا الاهتمام البالغ في التدوين والكتابة.
الفقيد “أحمد أمسروي” هو ابن المرحوم “الحاج محمد أمسروي بلحسن”، مؤسس المجموعة الاقتصادية الكبرى، لا نعرف عليه الشيء الكثير، خاصة ظروف وسياقات نزوله بمدينة أكادير وبداياته الأولى في مجال التجارة والتصنيع، بالكاد جمعنا معطيات قليلة حول هذا الشخص العبقري، الذي توفي سنة 2013، في انتظار الحصول عن المزيد من الوثائق والمعطيات لأن هذه الشخصية تستحق الكثير من الدراسة والبحث، باعتبارها شخصية وطنية قدمت الكثير للاقتصاد الوطني وللمواطنين. كما انه يعتبر شخصية ثقافية وتاريخية ستبقى راسخة في ذاكرة المغاربة، مواطنين وتجار ومستثمرين، فهو ينتمي إلى طبقة الأثرياء الكبار، لكن اسمه يعشقه الفقراء كثيرا وتلوكه ألسنتهم يوميا، ويبحثون عنه في الأسواق يوميا واسبوعيا وباستمرار، “بلحسن” اسم يفرح ويحزن له الجميع، بكل بساطة لأن اسمه مقرون باسم الزيت الذي يفطر به جل المغاربة خاصة في سوس. فجميع أسر وبيوت سوس والصحراء في المدن والبوادي تجد على موائدها “زيت الزيتون واد سوس” التي ينتجها بلحسن، ويعرفها الناس فقط بهذا الاسم.

إذن فهذا الشخص ينتمي إلى طينة خاصة، كشخصية ومسار وتجربة وثروة، فسوس يعج برجال المال والتجار الكبار، لكن بلحسن ينفرد عنهم جميعا، بمميزات وخصال واختيارات. فهو ينحدر من قبيلة آيت عبلا، وبالضبط من دوار “أسدرم” وهي إحدى مكونات كونفدرالية إيلالن بالأطلس الصغير.
ولكي يكون حديثنا وفهمنا شموليا ووافيا لشخصية “الحاج محمد” المؤسس الفعلي لمجموعة بلحسن، لابد من التطرق ولو بشيء من الاقتضاب إلى الجذور التاريخية لقبيلته “آيت عبلا”، لفهم الكثير من الأصول الثقافية والاجتماعية والتاريخية لهذا النجاح الاقتصادي والمالي الباهر، الذي حققه شخص بسيط نزل من الجبل بمفرده في وقت عصيب جدا إبان الحماية الفرنسية، وشق مساره الأسطوري بمعاناة وصبر وعمل واجتهاد، إلى أن أصبح من بين أثرياء سوس والمغرب.
تقع قبيلة آيت عبلا وسط جبال الأطلس الصغير المعروف ببلاد جزولة، تمتاز تضاريسها بحدة الارتفاع، تتخللها قمما جبلية معروفة، منها “أزرار إفسفاس” وقمة “أزكور”.
“آيت عبلا” تحدها من جهة الشمال الغربي قبيلة “إيدوسكا أوفلا” وقبيلة أملن من الجنوب الغربي، ثم تاسريرت، وإيسافن من جهة الجنوب الشرقي، وغربا تحدها قبيلة “آيت تيفاوت”. ويظهر من خلال هذا التوطين أن آيت عبلا تحتل مجالا جبليا وصخريا عنيدا يسود فيه مناخ شبه صحراوي. وتتوزع تشكيلات القبيلة إلى ثلاث وهي إمي ن كردال، وطارافان، وأفراوا، كما تستقر الساكنة في حوالي 22 دوارا ينتشرون على السفوح ومواقع قريبة من الماء والعيون والآبار.
تاريخ “آيت عبلا” يكتنفه الكثير من الغموض بسبب وجود بياضات كثيرة، وعدم توفر أبحاث جدية حول المنطقة، وشح المادة والمعلومات التاريخية، إلا ما وصلنا من شذرات قليلة موزعة على المتون. فهذه الأخيرة تجمع على أن أصل هذا التجمع الذي يحمل اسم “آيت عبلا” نزح من “تامدولت” بعد خرابها على إثر هجوم كاسح قاده “محند أوعلي أمنصاك” خلال القرن الرابع العاشر الميلادي. وتشير بعض الأبحاث إلى أن “ايت عبلا” لهم جذور من “إمجاض” بسبب استمرار روابط القرابة الاجتماعية بين الأسر والتي لا تزال تحافظ على تبادل الزيارات البينية بين المنطقتين من “آيت عبلا” نحو امجاض.
وكيفما كان القول في شأن الأصول، فإن جل قبائل الأطلس الصغير تنتمي إلى جزولة، إيكيزولن، التي قد يقصد بها الاسم القديم “الجيتول” والتي لها استقرار طويل بالمنطقة، دون اغفال عوامل الاستيعاب التي تميزت به جبال جزولة خاصة في علاقتها مع بطون صنهاجة الصحراء الذين صعدوا إلى الشمال في مراحل متفرقة بعد قيام دولة المرابطين وانهيارها، ولعل انتشار ظاهرة الصلاح والتجارة وطلب الامارة في جبال جزولة لدليل ساطع على هذا التمازج التاريخي القوي بين ايزناگن وايگيزولن.

إن أهم ما يبرهن على عراقة “آيت عبلا” وجيرانهم في الأطلس الصغير هو انتشار إيگودار أو المخازن الجماعية بشكل ملفت للانتباه، وهي مؤسسات سياسية واجتماعية عتيقة جدا، كانت تؤدي وظائف كثيرة منها ما يوازي وظيفة الأبناك حاليا، وتؤطرها منظومة ثقافية ومرجعية حضارية في غاية الاهمية حابلة بالقيم وبالنظم الفلسفية التي تتوارثها الأجيال شفهيا منذ حقب سحيقة في التاريخ، لا يعرف أولها، كما تستند أيضا على مرجعية قانونية مكتوبة يسميها الفقهاء ومدوني التاريخ المحلي في سوس بالألواح (انظر كتاب ألواح جزولة لمحمد العثماني)، وهي في الواقع بمثابة دساتير لا يوجد لها مثيل في العالم، ولكن للأسف الشديد مادام أنها دساتير أمازيغية فإنها قوبلت بالرفض والانكار داخل أوساط “النخبة” التي تأثرت بالثقافة العربية الإسلامية التي تعتبر كل ما هو امازيغي “من عوائد البربر لا قيمة له”. هذه الدساتير اليوم التي تسمى “الألواح” تم اكتشاف أقدمها إلى حد الآن في قبيلة “آيت عبلا” وهو المعروف بلوح “أكادير أوجاريف” الذي يعود تقريبا إلى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي حوالي 1498م، وهذا فيه دلالة كبيرة وعميقة لفهم الكثير من الإشكالات الراهنة. وقد جمع الباحث “حفيظ أشافي” معلومات قيمة ونادرة في بحث غير منشور حول هذا الدستور الامازيغي “أگادير اوجاريف”.

وتجدر الإشارة أيضا إلى أن قبيلة “آيت عبلا” كانت لها عاصمة تجارية ومعدنية كبيرة، نافست مدن كثيرة خلال عصر الوسيط كمدينة تارودانت وغيرها من المدن التجارية، وهي مدينة “تازالاغت” التي كان يوجد بها منجم للنحاس يعتبره المؤرخ “عمر أفا” من بين أهم المناجم القديمة بالمغرب، والذي ذكره المؤرخون خلال العصر الوسيط ومنهم المؤرخ المراكشي. وقد تحدث عن هذه المدينة أيضا صاحب “ديوان قبائل سوس” الذي عاصر السلطان السعدي “أحمد المنصور الذهبي” واشتغل معه وأعد له ديوانا خاصا بالقبائل يفصل فيه حصص الضرائب والجباية التي يجب على كل قبيلة أدائها للسلطان. مدينة تازالاغت تحدث عنها الكثير من المؤرخين والرحالة واجمعوا على كونها مدينة منجمية يوجد بها سوق تجاري لا يقل أهمية وحيوية عن المدن التاريخية المعروفة بسوس، كنول لمطة وتارودانت واليغ…
إن ما يهمنا في هذا الصدد، هو التعرف على الجذور التاريخية للحياة الاقتصادية لقبيلة آيت عبلا وتجذر الممارسات والمعاملات التجارية في تاريخ المجتمع، دون اغفال قضية استغلال المناجم من قبل ساكنة البوادي والجبال في تاريخ المغرب. فقد لاحظ الرحالة “شارل دوفوكو” خلال أواخر القرن التاسع عشر الذي زار المنطقة أن العمال مستغلي هذا المنجم كانوا ينزلون تحت الأرض إلى عمق يترواح بين 200 و300 دراع، وكانوا يرتدون لباس الجلد. وقد تأكد “عمر أفا” من خلال اطروحته حول النقود في تاريخ المغرب، أن منجم تازالاغت ظل يعمل إلى حدود سنة 1930، وتم إعادة استخدامه في السبعينات من القرن الماضي، لكن يبدو أنه تم استنزاف كل ما بباطنه من النحاس والذهب.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن قبيلة “آيت عبلا” تعتبر آخر القلاع التي صمدت تجاه الاستعمار الفرنسي، فقد تصدت المقاومة الأمازيغية للجيوش الفرنسية ببسالة شديدة ولم تستسلم إلى اللحظات الأخيرة حين قصفت فرنسا الأبطال المقاومين بالطائرات في الجبال بقيادة امغار “عبدالله أزاكور” سنة 1934 الذي قال قولته المشهورة، “إتما الرصاص إتما وأول” وتجسد مقاومة “ايت عبلا” إحدى الحركات المرجعية التي يستند عليها الخطاب الأمازيغي المعاصر لأنها كانت حابلة بالروح التاريخية والقيم الثقافية التي تمتاز بها “الشخصية الامازيغية” عبر التاريخ، أهمها الدفاع عن الأرض والوطن إلى آخر الرمق. فتأخر دخول الاستعمار إلى ايت عبلا بما يقارب 24 سنة عن عقد الحماية بين المخزن وفرنسا، كانت كلها فترة المقاومة والحروب المتتالية حقق فيها المقاومون انتصارات كثيرة، إلى أن استعانت فرنسا بالغارات الجوية. هذا التأخر ساهم بشكل كبير في بقاء القيم الامازيغية واستمرارها، وانغرست في الجيل المعاصر للحماية واشتغل بها أبناء القبيلة الذين هاجروا إلى المدن الكبرى، وطبقوها حرفيا في ميدان التجارة، كما هو شأن “الحاج محمد بلحسن”.
فالتجارة قبل أن تكون معاملة اقتصادية ونقدية فهي ثقافة في مفهومها الشمولي، فمعرفة أسرار تفوق “إبودرارن” اليوم في التجارة وميدان الأعمال وسرعة تأقلمهم مع مستجدات العصر، يقتضي ذلك الفهم الجيد للبنيات الثقافية والذهنية والتاريخية التي تؤطر حياة “إبودرارن” وتنسج سلوكهم التجاري والاقتصادي. فكيف يراكم هؤلاء الثروة؟ وكيف يصنعون الرفاه الاجتماعي؟ كيف ينظرون إلى الربح والخسارة؟ كيف ينتقلون من الدكان الصغير إلى مجموعة دكاكين ثم إلى شركة ثم إلى معمل ثم إلى أنتروبول صناعي ضخم؟ ما هي علاقتهم مع المخزن الاقتصادي واللوبي الحزبي؟ هذه المسارات والممرات تبقى اجبارية امام الجيل الاول من التجار السوسيين الذين بدأوا من الصفر وصعدوا إلى المجد والقمة. ومن بينهم “الحاج محمد بلحسن”. ويصعب كثيرا فهم هذه الشخصية الفريدة دون وجود معطيات دقيقة وأرشيف ووثائق وصور وشهادات من أقربائه وأصدقائه وشركائه وحتى من منافسيه في التجارة والاستثمار الصناعي.

وهذه القضايا المرتبطة بتفوق “ابودرارن” في التجارة والمال والاستثمار، يسميها “جون ووثربوري” في كتاباته ب “الظاهرة السوسية” فهي مستعصية على الفهم، وهي ظاهرة قديمة بدأت مع الحماية الفرنسية وهجرة السوسيون إلى المدن الشمالية، لذلك ظهرت كتابات حول هذا الموضوع/ الظاهرة مبكرا، مثل دراسة “روبير مونتاني” حول الطبقة العاملة بالدار البيضاء، ودراسة “آندري أدام”Casablanca Les Berbères à وكتابات الانثروبولوجي الأمريكي “جون واتربوري” في كتابه “أمير المؤمنين” وكتابه الشيق تحت عنوان “الهجرة إلى الشمال: سيرة تاجر أمازيغي” الذي ترجمه إلى العربية “محمد أوبنعل”، كما يجب أن نوه بالمجهودات العلمية الكبيرة التي يبذلها السوسيولوجي “إبراهيم لاباري” في نشر دراسات قيمة جدا حول المقاولة العائلية بسوس، سواء بجامعة اكادير التي يشتغل بها أو بفرنسا التي درس بها. وهي لا شك أبحاث ومقالات ستفتح أفاقا واعدة للطلبة الباحثين لانجاز دراسات جامعية حول البورجوازية السوسية حول “ظاهرة إبودرارن”. كما نجد إفادات مهمة جدا في كتابات “عمر أمرير” خاصة في كتابه “العصاميون السوسيون في الدار البيضاء”، كما نستند أيضا على بعض السير الذاتية التي كتبها رجال المال الكبار حول أنفسهم بالرغم من عدم اهتمامهم بالذاكرة والكتابة، مثل كتاب “مولاي مسعود أكوزال” وسير ذاتية أخرى كتبت من طرف باحثين حول بعض الشخصيات المالية الكبرى، مثل كتاب “عبدالله كيكر” حول الحاج حماد أولحاج أخنوش، والد عزيز أخنوش الوزير حاليا. كما نشرت مقالات ودراسات باللغات الأجنبية خاصة الفرنسية حول بعض العائلات السوسية الكبرى المشهورة في ميدان المال والتجارة والصناعة.

وانطلاقا مما سبق يظهر ان عائلة “بلحسن” لم تحظ بالعناية الكبيرة على غرار العائلات الأخرى التي أنجزت حولها الدراسات والأبحاث، عدى ما جاء به المؤرخ الفرنسي Pierre Vermeren في كتابه Le Maroc en Transition. والسبب ربما يعود إلى أن عائلة بلحسن تفضل الاشتغال في الظل والابتعاد عن السياسة والحزبية ولعب أدوار طلائعية عبر البروز والظهور المخطط له وفق البروباكندا والدعاية كما تقوم به بعض الأسر البورجوازية الكبيرة في بعض المدن حيث تكون الثروة رديفة بالريع السياسي، فحتى ما تقوم به عائلة بلحسن من عمل اجتماعي في المساعدة الطبية والتضامنية والرياضية تتحاشى فيه الدعاية، وبالتالي فميزة بلحسن هي الاستثمار النظيف والعمل في الظل.
والعودة إلى البدايات الاولى لصناعة الثروة، يتضح ان “الحاج محمد بلحسن” نزل إلى سوس خلال الأربعينيات من القرن الماضي، لا نعرف السنة بالضبط، فهو ينتمي إلى أسرة ممتدة في دوار أسدرم بأيت عبلا، له أربع اخوة، كان والده يملك قطعان من الماشية على غرار باقي الأسر في الجبل، فهم كما رأينا أعلاه يمارسون التجارة والاستغلال المنجمي وأيضا تربية الماشية، ومنها أيضا يتعلمون التجارة. الحاج محمد الشاب فطن مبكرا للتغيرات الاقتصادية والمجالية والايكولوجية التي طرأت في المنطقة بفعل دخول الاستعمار وتبدل الأحوال والأسواق ودخول الآلة، وشق الطرقات وسيادة الأمن وبروز المدن الصناعية وتطور التجارة بتطور السلع وسرعة انتشارها، لذلك نزل إلى مدينة اكادير واشتغل في التجارة كباقي أبناء البوادي، ثم انتقل بسرعة إلى ممارسة مهنة توزيع بعض المواد الأساسية خاصة زيت الزيتون” “زيت العود” وكان في الخمسينيات يتلقى كميات كبيرة من الزيت من طرق التاجر السوسي “عابد أكنيظيف” ويقوم “بلحسن” بتوزيعها في أكادير وسوس بدراجة نارية، ثم تطور وكبرت شبكة علاقاته مع التجار الأمازيغ واليهود والفرنسيين، واستطاع شراء رخصة بيع زيت “واد سوس” من تاجر ينتمي إلى اغرم ويقطن في هوارة يدعى “أبوالقاسم”. في هذه الفترة التي لا نملك فيها معطيات كثيرة عن الحاج محمد إلا أنه اشتهر بالعمل الجاد والصبر واكتسب ذكاء خارقا في التعامل التجاري وحسن التدبير والاستثمار، فكان في بدايته لا يصرف أمواله في بناء المنازل في الجبل كما فعل أقرانه الذين تنافسوا في بناء المنازل للتفاخر والتنافس بينن التجار المهاجرين ( انظر شهادة الحاج إبراهيم سيرة تاجر أمازيغي). فالحاج محمد ركز بشكل كبير في بدايته الاولى على تراكم رأسماله وتوسيع شبكته التجارية والفوز برخص توزيع سلع ومواد غذائية يتزايد عليها الطلب والاستهلاك في تلك المرحلة كالمواد الغذائية والمشروبات الغازية، ويروى أن والد الحاج محمد كان يطلب منه العودة إلى البلاد لمساعدة اخوانه الأربعة في شؤون تامزيرت، إلا أن الأبن يجيبه أنه يشتغل ويكد هو في المدينة لكي ينزل اخوانه إلى المدينة ويعملون معه في مشاريعه التي ينهمك في بنائها. وفعلا ذلك الذي تحقق.

من توزيع زيت الزيتون “العود” إلى الاشتغال مع “لوسيور” زيت المائدة، ثم توزيع المشروب الغازي “بيبسي” وغيرها. وبعد زلزال اكادير تطور سنة 1960 توسعت ثورة بلحسن مستفيدا من إعادة الاعمار اجتماعيا واقتصاديا واستثماريا، وكان بلحسن من الناجين القلاقل من تلك الفاجعة الأليمة، بفعل علاقاته التجارية الكبيرة في مدينة اكادير واحوازها، فانه تنبه بقدوم الفاجعة ربما عن طريق جلساته مع الفرنسيين والتجار الأجانب الذين انتبهوا إلى الهزات التي وقعت قبل ليلة “الخراب الكبير”، حسب ما يروى أن العديد من الساكنة فروا من المدينة مباشرة بعد الهزة الأرضية التي وقعت في صبيحة ذلك اليوم، ومنهم من نصحوا معارفهم وجيرانهم بضرورة مغادرة المدينة، وهو ما حصل مع الحاج محمد الذي فر مع أبنائه إلى خارج المدينة، ربما إلى هوارة.
الحاج محمد خلال الستينيات كسب تجربة كبيرة وانتقل من التوزيع إلى التصنيع، وبذكائه التجاري الثاقب، وحدسه القوي في فهم وادراك مستقبل الاستثمار الصناعي ومعرفته التامة بتفاصيل وصراع المنافسة بين الماركات التجارية، فقد تفاوض مع شركة كوكاكولا للظفر بصفقة الاشراف على تصنيعها وتوزيعها في الجنوب مقابل التخلي عن علامة “بيبسي” ونجح في ذلك سنة 1971 وبدأ في معمل صناعة المشروبات الغازية “كوكا” بامكانيات بسيطة وبعدد قليل جدا من المستخدمين ثم تطورت بشكل مهول مع مرور السنوات. فقد استفاد كثيرا من مغربة الشركات الفرنسية وقام بشراء الأصول التجارية وخلق شركات ومعامل خاصة به، انفصل عن لوسيور التابعة للهولدينك الملكي ONA وأسس شركة “لوسرا”. ودخل في منافسة مع المخزن الاقتصادي. وفي سنة 1977 اشترى “شركة زيت الزيتون واد سوس” وهي التي بدأت منذ سنة 1948، وهي الشركة التي طورها “بلحسن” بشكل منقطع النظير، وأصبحت اليوم أضخم شركة في المغرب لصناعة وإنتاج الزيوت، وأكبر شركة مصدرة للزيوت بالمغرب ولم تستطع الشركات الأخرى منافستها بالرغم من التطور الحاصل في صناعات وإنتاج الزيوت، إلا أن مجموعة بلحسن واكبت هذا التطور بتراكم التجارب ومواكبة مستجدات التكنولوجيا الصناعية في هذا القطاع، وأسست المجموعة معامل كبرى في كل من أكادير وعين تاوجضات وفاس …

بلحسن معروف أيضا بالاستثمار في صناعة تصبيرالسمك والصناعات التحويلية للمنتوجات البحرية، وهو القطاع الذي بدأ من الثلاثينيات في مدينة اكادير وانتشر فيها بعد الحرب العالمية الثانية، واستفاد بلحسن من سياسة المغربة واقتحم هذا المجال في سنة 1963 باسم شركة التصبير واد سوس، وانتشرت معامل بلحسن في كل من اكادير وطانطان والداخلة، وتفرعت انتاجاتها في تصبير المنتوجات البحرية، كالاسماك السطحية والتونة ودقيق الأسماك وزيوتها، الذي يستعمل في صناعة الاعلاف وغيرها، هذا الاخطبوط الصناعي الكبير في قطاع تصبير الأسماك تحول في سنة 1999 إلى “المركب الصناعي بلحسن” CIBEL.
باختصار فمجموعة بلحسن الصناعية اقتحمت تصنيع وإنتاج العديد من الماركات والمواد الغذائية الأساسية والمشروبات الغازية، مثل كوكاكولا، وزيت واد سوس، وليو، ولوسرا، ومعجون الطماطم، والشاي، والقهوة، وإنتاج البرتقال، والصوجا، والزبدة، ومؤخرا تم افتتاح معمل كبير لصناعة البلاستيك في مدينة أكادير، وبالتالي أضحت مجموعة بلحسن من أضخم المجموعات الاقتصادية الصناعية الكبرى في المغرب. ولم تنفتح المجموعة على الاستثمار العقاري إلا بشكل محتشم في السنوات الأخيرة.
إن الأهم هنا هو دراسة السلوك الاقتصادي عند “بلحسن” الذي يستبطنه من المعارف الأمازيغية ومن الخلفية الثقافية والحضارية التي تؤطر ذهنية التاجر الأمازيغي بشكل عام، لكن “بلحسن” ظل وفيا للمرجعية والقيم الامازيغية، ونلاحظ ذلك في اعتماده على ذاته وعلى عرق جبينه فقد رأينا أنه انتقل من كل المراحل الاجبارية التي يمر منها التجار السوسيون الاوائل، وعلى غرار ما علمناه من مسار التاجر عابد السوسي الذي انتقل من داكن صغير بجانب ضريح سيدي بليوط بالدارالبيضاء سنة 1900 إلى أكبر التجار والصناع في البيضاء وطنجة، وكذلك مسارات مشابهة مثل أباعقيل ومولاي مسعود أكوزال الذي استثمر هو الاخر في انتاج الزيوت. فالحاج محمد بلحسن لم يلج قط إلى المدرسة وإنما أصبح هو بنفسه مدرسة قائمة في مجال خلق الثروة والاقتصاد والصناعي.
الحاج محمد بلحسن يشتغل بنظيمة “تيوزي” فقد سهر على خلق منظومة انتاج “عائلية مغلقة” تنتمي إلى نفس قبيلته “آيت عبلا” أدمج اخوانه وابنائهم في مشروعه، تزوج من عائلة الباعيسي من دوار “تيزي إمليل” واندمجت العائلة في المشروع الاقتصادي والصناعي، وزوج إبنته المرحومة “للحاج أوباري” من دوار “بوكوزول” الذي أصبح هو الآخر قطبا صناعيا داخل المجموعة، فكلما يكبر المشروع الاقتصادي لبلحسن إلا وتكبر معه هذه الشبكات العائلية المتداخلة التي تنتمي إلى نفس القبيلة، وأصبح القطب الصناعي يتشكل من المثلث أسدرم وتيزي ن امليل وبوكوزول، وهذه الخطاط رسمها بعناية الحاج محمد بلحسن، فلم يسعى يوما إلى ربط علاقات مصاهرة مع بيوتات فاس على شاكلة بعض السوسيين في البيضاء ومراكش وطنجة وحتى في اكادير، بل كان حريصا على الحفاظ على البنية “العائلية الامازيغية الممتدة” في مجال الاقتصاد والاستثمار.
ومعروف أيضا على بلحسن حبه واعتزازه بالثقافة الأمازيغية والحديث بها أينما حل وارتحل، ويظهر ذلك في أبنائه الذين يتحدثون بالامازيغية ويدافعون عنها ويعتنون بمساعدة وتمويل الأنشطة الثقافية الامازيغية وحفظ التراث، خاصة ابنه المرحوم عبدالله وكذلك المرحوم احمد، ويسير على نفس النهج أخوهم حسن.

خلاصة القول، عائلة بلحسن تستحق المزيد من العناية والكتابة لأنها تقدم النموذج الامازيغي في الاقتصاد والاستثمار النظيف، هي عائلة محترمة لدى الجميع، لها نفس المسافة مع جميع الأحزاب السياسية، المجموعة الاقتصادية تشغل عددا كبيرا من اليد العاملة في المدن التي تستثمر بها، كما ساهمت أيضا في الصندوق الجهوي لتمويل ودعم المخطط الجهوي للتسريع الصناعي بمبلغ مالي ضخم جدا يناهز 50 مليار سنتيم.
وهي كذلك، فاننا نتمنى لها كامل النجاح والتوفيق ونتوسم منها المزيد من الاهتمام بالثقافة واللغة والحضارة الامازيغية خاصة في بوادي سوس.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات