الواقعية الأممية تكتب شهادة وفاة “بوليساريو”

الإدارة29 أكتوبر 2025
الواقعية الأممية تكتب شهادة وفاة “بوليساريو”

النهار24. 

تعيش “بوليساريو” طورا متقدما من التآكل البنيوي، في لحظة تتقاطع فيها إشارات الداخل مع اتجاهات التعاطي السياسي مع نزاع الصحراء داخل أروقة الأمم المتحدة، وبعواصم الدول العظمى، حيث لم يعد الأمر تعثرا ظرفيا للفكرة الانفصالية ورعاتها، بل نكسة حقيقية لعمق الفكرة وكل أدواتها، والتي لطالما روجت لسردية فقدت صلاحيتها في الإقناع، أمام اختبار الواقع، الذي لم يعد يقبل استمرار نزاعات تستنزف الجهد الدولي لأغراض أثبت الزمن عبثيتها وبوارها.
تلك صورة تتبدى، اليوم، في ثلاثة مستويات متلازمة: مشروع سياسي بات خارج دورة التحولات الإقليمية، وكيان موهوم يستهلك مفردات متقادمة من زمن الحروب الباردة، وبنية استبدادية عند عسكر الجزائر، تعمل بمنطق إدارة الزمن بدل صناعة الحلول.
في المقابل، تترسخ القناعة عند الفاعل الدولي، بضرورة التأسيس لتعريف متزن ورصين للشرعية الدولية، بمعيار الجدوى لا بمعيار الشعارات، وبمنطق السلام الممكن لا السلام الحالم.
فالأمم المتحدة لا تريد أن تكون، اليوم، منصة لإحياء تراث الشعارات ولا لإدامة متحفيات زمن السبعينات، بل تريد منطلقا لإرساء مقومات سلام مستدام وأمن إقليمي لا يبتز برعونة تنظيم تربى في كنف نظام عسكري متسلط، واستبطن منطق العصابة، بدل منطق الدولة. هذا التنظيم الذي يختبئ في البلاغات، كلما اشتد عليه الخناق، يجد نفسه اليوم أمام منظومة دولية عازمة على إصدار شهادة وفاة لشيء اسمه “بوليساريو”، من داخل مجلس الأمن، الذي اختار لنفسه تبني مسارات براغماتية صارمة تسأل عما ينجز لا عما يعلن، وتزن المقترحات بميزان المنطق والقدرة على التنفيذ لا بارتفاع النبرة في الخطاب. وعلى هذا الميزان بالذات تنكشف الهوة الفاصلة بين مقاربة دولية تعتبر الحكم الذاتي الأساس الوحيد لكل مساعيها، من أجل حل دائم لنزاع الصحراء، وبين تنظيم يستعيد قاموس الثمانينات كأن الزمن لم يتحرك خطوة، فيطلب من العالم أن يؤمن بالفراغ وأن يوقع على إدارة الأزمة بوصفها حلا، فيما الحقيقة البسيطة، التي لا تحتاج سوى إلى عينٍ يقظة، تقول إن منطق السلام المستدام لا يطيق هذا الارتهان لوعي أرعن، وإن من لا يملك إلا الضرب على الطبول لن يعلو صوته على منطق النتائج.
لم يكن اختيارا لدى الجزائر، التحول في التعاطي مع ملف الصحراء، من موقع “الراعية” التي تتحدث بثقة عن نفوذ إقليمي وقدرة على التحكم في إيقاع الأحداث، إلى طرف “متحرج” يضيق هامش مناوراته، مع كل دورة أممية جديدة، فالمزاج الدولي ينتقل بوضوح من تدبير النزاع، إلى فرض إطار وحيد للحل، مع ترسخ المقاربة الأمريكية البراغماتية، التي تعتنق الحلول الواقعية، وتدفع نحو ترتيبات مستدامة في اتجاه تنزيل الحكم الذاتي، وما يوازي ذلك من تزايد للضغط على عسكر الجزائر، كي يتخلى عن تكتيكات التعطيل وتغليب الحسابات الدعائية على مقتضيات الاستقرار، في وقت تعيد فيه العواصم الكبرى تعريف أولوياتها على قاعدة الجدوى.
إن خروج عسكر الجزائر عبر منابره لإعلان النية “استباقا” بعدم التصويت على قرار مرتقب لمجلس الأمن يرسخ الحكم الذاتي أساسا وحيدا للحل، ليس موقفا مبدئيا بقدر ما هو محاكاةٌ مبكرة لبيان النعي، وبكاء يسبق الجنازة بليلة، ومحاولةٌ لإضفاء غطاء لفظي على عجزٍ فعلي.
فمن يملك أدوات التأثير لا يهرول إلى صفحات الجرائد ليبرر عزوفه قبل أن يرفع محضر التصويت بجلسة مجلس الأمن المرتقبة، ولا يلوح بسيادة القرار ليغطي فراغ الحيلة. فاللغة المرتبكة التي تقول إن “الجزائر قد لا تصوت على القرار الأممي”، تقول أيضا، وبكل بساطة، “لقد نفدت الأوراق، وسقط رهان التعطيل، ولم يعد في الجراب سوى صخب المانشيتات”، لينقلب التحفظ المعلن إلى إقرار بالهزيمة، يتضمن عجزا عن تعديل النص، وعجزا عن بناء كتلة مناوئة، وعجزا عن السباحة ضد تيار أممي لا يشتري الخطابة، بل يتبنى المبادارت التي تترجم إلى ترتيبات قابلة للتنفيذ

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة