مخيمات تندوف … حين تتحول القمامة إلى أجندة سياسية

الإدارة18 أغسطس 2025
مخيمات تندوف … حين تتحول القمامة إلى أجندة سياسية

النهار24. 

زعيم بوليساريو الذي اعتاد أن يتصدر نشرات الأخبار عند كل مناسبة، بخطابات مشحونة بالشعارات والوعود التي لا تجد طريقها إلى التنفيذ، وجد نفسه هذه المرة أمام مشهد يختزل حالته السياسية الراهنة. فبعد عقود من العجز عن تحقيق أي تقدم حقيقي في ملف الصحراء، وبعد أن استهلك كل مناوراته، أطلق حملة لجمع القمامة من المخيمات، خطوة ظاهرها إنساني وبيئي لكن باطنها يعكس فراغا سياسياً غير مسبوق. إذ من المفارقات أن يصبح تنظيف الأرض من بقايا الأكياس والعلب المعدنية إنجازاً يُسوَّق في بيانات بوليساريو الرسمية، وكأن الواقع في تلك المخيمات ليس أصلا نتيجة تراكم “قمامة” سياسية أعمق بكثير من مجرد نفايات مادية.
هذه الحملة غير المعتادة من قبل إبراهيم غالي، تجسد الوضع المأساوي للحركة التي باتت تدور داخل قفص مظلم رسمته المخابرات الجزائرية بعناية، قفص لا يسمح بأي حركة خارج الخطوط المرسومة. فالملف السياسي متجمد والمفاوضات لا تتحرك والقيادة لا تملك قرارها المستقل و جنرالات الجزائر قرروا تأجيل مؤتمر بوليساريو، وهو ما جعل عصابة الرابوني تلجأ إلى أنشطة هامشية تملأ بها فراغ المشهد.
وفي ظل هذا الانسداد يعيش سكان المخيمات حالة من الإحباط واليأس حيث انعدمت فرص الحياة الكريمة وصار الحصول على الماء أو الدواء تحديا يوميا. أما الأفق السياسي فقد تبخر منذ زمن لتتحول الحركة إلى مجرد أداة في يد الجزائر تستعملها لإطالة عمر النزاع بما يخدم أجندتها الإقليمية. لكن إذا كانت القمامة المادية قابلة للإزالة بشاحنة ومجموعة متطوعين فإن القمامة السياسية التي تلوث المجال المغاربي بأكمله منذ نشأتها تحتاج إلى إرادة وقرار سياسي غائب تماما عند حكام الجزائر.
من جهة، وفي الوقت الذي كانت الكاميرات تلتقط صور زعيم الرابوني وهو يتفقد أكوام النفايات كانت أزمة جديدة تتشكل على بعد آلاف الكيلومترات هذه المرة مع كوبا آخر ما تبقى من معاقل الحركة في أمريكا اللاتينية. فقرار تعيين إبراهيم أحمد محمود بيد الله الملقب بـ”كريكاو” سفيرا في هافانا أثار حرجا دبلوماسيا غير مسبوق لكوبا لأن الرجل يحمل تاريخاً مثيراً للريبة من حيث علاقاته المشبوهة مع الجماعات الجهادية في الساحل والصحراء حين كان يقود مخابرات بوليساريو بين 2011 و2020، الأمر الذي أحرج هافانا التي لطالما حاولت الحفاظ على صورتها الثورية، لكنها وجدت نفسها مجبرة على التعامل مع هذا التعيين الذي لم يكن في الحقيقة سوى جزء من تصفية الحسابات، بعدما اختار غالي أن يفرض كريكاو ليس حبا فيه ولكن نكاية في بولسان الذي كان يريد بقاء نفوذه في المنطقة القريبة من استثماراته الضخمة في كوبا وفنزويلا والأوروغواي، حيث يدير نجلاه أعلي وخدجتو شركات ومراكز صحية بملايين الدولارات، وهو ما يكشف الوجه الآخر من الحركة، حيث تختلط شعارات النضال مع حسابات الربح والخسارة وتتداخل المصالح الشخصية للعائلات النافذة مع القرارات السياسية والدبلوماسية.
ومن جهة أخرى، فان الأخطر يكمن في أن هذه الأزمة الكوبية أخرجت إلى السطح خلافات داخلية غير مسبوقة بين قيادات بوليساريو، فالشقاق الذي كان دائما يُدار في الغرف المغلقة بالرابوني أو يُحل بتدخل مباشر من المرادية، انتقل الآن إلى الساحة الدولية ما يعني أن الانقسام لم يعد قابلا للاحتواء بسهولة، وهذه نقطة تحول قد تؤدي إلى تفكك العقد القيادي نفسه إذا ما استمرت المعارك الجانبية على المناصب والولاءات. ولعل المفارقة الكبرى هذه المرة أن القيادة التي عجزت عن الحفاظ على وحدة صفها في الملفات الكبرى والتي فشلت في تحقيق أي مكسب على طاولة التفاوض تجد نفسها اليوم قادرة فقط على تنظيم حملات تنظيف لتلميع صورتها أمام جمهور أنهكته عقود من الوعود الكاذبة، بينما الواقع أن أي نظافة شكلية لن تغير حقيقة أن المخيمات تغرق في تلوث سياسي واجتماعي واقتصادي أعمق بكثير، وأن الأزمة ليست في أكوام النفايات التي يجمعونها أمام الكاميرات بل في الأكوام المتراكمة من القرارات الخاطئة والتحالفات المريبة التي جعلت بوليساريو رهينة للجزائر ورهينة لمصالح شخصية معقدة ومتداخلة.
وإذا استمرت هذه المعادلة فحتى لو تم تنظيف كل حبة غبار في المخيمات ستظل روائح التعفن السياسي تزكم الأنوف وتفضح حقيقة أن هذه الحركة لم تعد مشروع تحرر كما تدّعي، بل أصبحت شبكة مصالح متآكلة، تناور من أجل البقاء عبر مسرحيات متكررة، لم تعد تنطلي على أحد

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة